فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعلبي:

{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ}
وكانت الزينة لهم على ما قاله ابن عباس وابن إسحاق والسدي والكلبي وغيرهم: إن قريشًا لمّا أجمعت المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر بن عبد مناف بن كنانة من الحرب التي بينها وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فكان ذلك أن يثبتهم، فجاء إبليس في جند من الشياطين معه رايته فتبدّى في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني، وكان من أشراف كنانة.
قال الشاعر:
يا ظالمي أنّى تروم ظلامتي ** والله من كل الحوادث خالي

{فَلَمَّا تَرَاءَتِ الفئتان} أي التقى الجمعان ورأى إبليس الملائكة نزلوا من السماء وعلم أنّه لا طاقة له بهم {نَكَصَ على عَقِبَيْهِ}. قال الضحاك: ولّى مدبرًا. قال النضر بن شميل: رجع القهقري على قفاه هاربًا، وقال قطرب وابان بن ثعلبة: رجع من حيث جاء.
قال الشاعر:
نكصتم على أعقابكم يوم جئتمُ ** وتزجون أنفال الخميس العرمرم

وقال عبد الله بن رواحة: فلمّا رأيتم رسول الله نكصتم على أعقابكم هاربينا.
قال الكلبي: لما التقوا كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة بن كنانة آخذًا بيد الحرث بن هشام، فنكص على عقبيه وقال له الحرث: يا سراقة أين؟ أتخذلنا على هذه الحالة؟ فقال له {إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ} فقال: والله ما نرى إلا جواسيس يثرب. فقال: {إني أَخَافُ الله}.
قال الحرث: فهلاّ كان هذا أمس، فدفع في صدر الحرث فانطلق وانهزم الناس، فلمّا قدموا مكة قالوا هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال بلغني أنكم تقولون أني هزمت الناس، فوالله ماشعرت حتى بلغني هزيمتكم، فقالوا أما أتيتنا في يوم كذا فحلف لهم، فلمّا تابوا علموا أن ذلك كان الشيطان.
وقال الحسن في قوله: (أني أرى مالا ترون) فأتى إبليس جبرئيل معتجرًا بردة يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده اللجام يقود الفرس ماركب.
سمعت أبا القاسم الحبيبي سمعت أبا زكريا العنبري، سمعت أبا عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي يقول أفخر بيت قيل في الإسلام قوله بغيض الأنصاري يوم بدر:
وببئر بدر إذ نردّ وجوههم ** جبريل تحت لوائنا ومحمد

وقال قتادة وابن إسحاق. قال إبليس: إني أرى مالا ترون وصدق الله في عدوّه، وقال: إني أخاف الله، وكذب عدوّ الله، والله ما به مخافة الله ولكن علم أنّه لا قوة له ولا منعة فأيّدهم وأسلمهم، وذلك عادة عدو الله لمن أطاعه، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرّأ منهم.
قال عطاء إني أخاف الله أن يهلكني فيمن هلك، وقال الكلبي: خاف أن يأخذه جبرئيل ويعرّفهم حاله فلا يطيعوه من بعد، وقال معناه: إني أخاف الله، أي أعلم صدق وعده لأوليائه لأنه على ثقة من أمره.
قال الاستاذ الامام أبو إسحاق، رأيت في بعض التفاسير: إني أخاف الله عليكم والله شديد العقاب.
قال بعضهم هذا حكاية عن إبليس، وقال أخرون: انقطع الكلام عند قوله: إني أخاف الله قال الله: {والله شَدِيدُ العقاب}.
إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما رئي الشيطان يومًا هو فيه أصغر ولا أدجر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لمّا رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر»، وذلك أنه رأى جبرائيل وهو يزع الملائكة. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ أَعْمَالَهُمْ}
قال المفسرون: ظهر لهم في صورة سراقة بن جعشم من بني كنانة فزين للمشركين أعمالهم.
يحتمل وجهين:
أحدهما: زين لهم شركهم.
والثاني: زين لهم قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيه وجه ثالث: أنه زين لهم قوتهم حتى اعتمدوها.
{وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} يعني أنكم الغالبون دون المؤمنين.
{وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} يحتمل وجهين:
أحدهما: يعني أني معكم. وفي جواركم ينالني ما نالكم.
الثاني: مجير لكم وناصر. فيكون على الوجه الأول من الجوار، وعلى الوجه الثاني من الإجارة.
{فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ} يحتمل وجهين:
أحدهما: فئة المسلمين وفئة المشركين.
والثاني: المسلمون ومن أمدوا به من الملائكة. فكانوا فئتين.
{نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} والنكوص أن يهرب ذليلًا خازيًا، قال الشاعر:
وما ينفعل المستأخرين نكوصهم ** ولا ضَرّ أهل السابقات التقدم

{وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ} يعني من الملائكة الذين أمد الله بهم رسوله والمؤمنين.
{إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} وإنما ذكر خوفه من الله تعالى في هذا الموضع ولم يذكره في امتناعه من السجود لآدم لأنه قد كان سأل الإنظار إلى قيام الساعة فلما رأى نزول الملائكة ببدر تصور قيام الساعة فخاف فقال: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}
التقدير واذكروا إذ، والضمير في {لهم} عائد على الكفار، و{الشيطان} إبليس نفسه، وحكى المهدوي وغيره أن التزيين في هذه الآية وما بعده من الأقوال هو بالوسوسة والمحادثة في النفوس.
قال القاضي أبو محمد: ويضعف هذا القول أن قوله: {وإني جار لكم} ليس مما يلقى بالوسوسة، وقال الجمهور في ذلك بما روي وتظاهر أن إبليس جاء كفار قريش ففي السير لابن هشام أنه جاءهم بمكة، وفي غيرها أنه جاءهم وهم في طريقهم إلى بدر، وقد لحقهم خوف من بني بكر وكنانة لحروب كانت بينهم، فجاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو سيد من ساداتهم، فقال لهم: {إني جار لكم} ولن تخافوا من قومي وهم لكم أعوان على مقصدكم ولن يغلبكم أحد، فسروا عند ذلك ومضوا لطيتهم وقال لهم أنتم تقاتلون عن دين الآباء ولن تعدموا نصرًا.
فروي أنه لما التقى الجمعان كانت يده في يد الحارث بن هشام، فلما رأى الملائكة نكص فقال له الحارث أتفر يا سراقة فلم يلو عليه، ويروى أنه قال له ما تضمنت الآية.
وروي أن عمرو بن وهب أو الحارث بن هشام قال له أين سراقة؟ فلم يلو ومثل عدو الله فذهب ووقعت الهزيمة، فتحدث أن سراقة فر بالناس، فبلغ ذلك سراقة بن مالك، فأتى مكة فقال لهم: والله ما علمت بشيء من أمركم حتى بلغتني هزيمتكم ولا رأيتكم ولا كنت معكم، وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رأيته في صورة رجل من بني مدلج، فقال: {لا غالب لكم اليوم} الآية، و{اليوم} ظرف، والعمل فيه معنى نفي الغلبة، ويحتمل أن يكون العامل متعلق {لكم} وممتنع أن يعمل {غالب} لأنه كان يلزم أن يكون لا غالبًا، وقوله: {إني جار لكم} معناه فأنتم في ذمتي وحماي، و{وتراءت} تفاعلت من الرؤية أي رأى هؤلاء هؤلاء، وقرأ الأعمش وعيسى بن عمر {ترأت} مقصورة، وحكى أبو حاتم عن الأعمش أنه أمال والراء مرققة ثم رجع عن ذلك، وقوله: {نكص على عقيبه} معناه رجع من حيث جاء، وأصل النكوص في اللغة الرجوع القهقرى، وقال زهير:
هم يضربون حبيك البيض إذ لحقوا ** لا ينكصون إذا ما استلحموا وحموا

كذا أنشد الطبري، وفي رواية الأصمعي إذا ما استلأموا وبذلك فسر الطبري هذه الآية، وفي ذلك بعد، وإنما رجوعه في هذه الآية مشبه بالنكوص الحقيقي، وقال اللغويون: النكوص، الإحجام عن الشيء، يقال أراد أمرًا ثم نكص عنه، وقال تأبَّطَ شرًّا: [البسيط]
ليس النكوصُ على الأدبار مكرمةً ** إن المكارم إقدامٌ على الأسَل

قال القاضي أبو محمد: فليس هنا قهقرى بل هو فرار، وقال مؤرج: نكص هي رجع بلغة سليم.
قال القاضي أبو محمد: وقوله: {على عقبيه} يبين أنه إنما أراد الانهزام والرجوع في ضد إقباله، وقوله: {إني بريء منكم} هو خذلانه لهم وانفصاله عنهم، وقوله: {إني أرى ما لا ترون} يريد الملائكة وهو الخبيث إنما شرط أن لا غالب من الناس فلما رأى الملائكة وخرق العادة خاف وفرَّ، وفي الموطأ وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما رئي الشيطان في يوم أقل ولا أحقر ولا أصغر منه في يوم عرفة، لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رأى يوم بدر، قيل وما رأى يا رسول الله؟ قال: رأى الملائكة يزعمها جبريل».
وقال الحسن: رأى إبليس جبريل يقود فرسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معتجر ببردة وفي يده اللجام، وقوله: {إني أخاف الله} قيل إن هذه معذرة منه كاذبة ولم تلحقه قط مخافة، قاله قتادة وابن الكلبي، وقال الزجّاج وغيره: بل خاف مما رأى من الأمر وهوله وأنه يومه الذي أنظر إليه، ويقوي هذا أنه رأى خرق العادة ونزول الملائكة للحرب، وحكى الطبري بسنده أنه لما انهزم المشركون يوم بدر حين رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضة من التراب وجوه الكفار أقبل جبريل صلى الله عليه وسلم إلى إبليس، فلما رآه إبليس وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع يده ثم ولى مدبرًا، فقال له الرجل أي سراقة تزعم أنك لنا جار؟ فقال: {إني أرى ما لا ترون} الآية، ثم ذهب. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وَإذْ زَيَّنَ لهم الشيطانُ أعمالَهم}
قال عروة بن الزبير: لما أجمعت قريش المسير إلى بدر، ذكروا ما بينهم وبين كنانة من الحرب، فتبدَّى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك المدلجيّ، وكان من اشراف بني كنانة، فقال لهم: {لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جارٌ لكم} من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعًا.
وفي المراد بأعمالهم هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: شركهم.
والثاني: مسيرهم إلى بدر.
والثالث: قتالهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {فلما تراءت الفئتان} أي: صارتا بحيث رأت إحداهما الأخرى.
وفي المراد بالفئتين قولان:
أحدهما: فئة المسلمين، وفئة المشركين، وهو قول الجمهور.
والثاني: فئة المسلمين، وفئة الملائكة، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: {نكص على عقبيه} قال أبو عبيدة: رجع من حيث جاء.
وقال ابن قتيبة: رجع القهقري.
قال ابن السائب: كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة، آخذًا بيد الحارث بن هشام، فرأى الملائكة فنكص على عقبيه، فقال له الحارث: أفرارًا من غير قتال؟ فقال: {إني أرى ما لا ترون}؛ فلما هُزم المشركون، قالوا: هَزَمَ الناسَ سراقةُ، فبلغه ذلك، فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم.
قال قتادة: صدق عدو الله في قوله: {إني أرى ما لا ترون}، ذُكر لنا أنه رأى جبريل ومعه الملائكة، فعلم أنه لا يد له بالملائكة، وكذب عدو الله في قوله: {إني أخاف الله}، والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوَّة له بهم.
وقال عطاء: معناه: إني أخاف الله أن يهلكني.
وقال ابن الأنباري: لما رأى نزول الملائكة، خاف أن تكون القيامة، فيكون انتهاء إنظاره، فيقع به العذاب.
ومعنى {نكص}: رجع هاربًا بخزي وذلّ.
واختلفوا في قوله: {والله شديد العقاب} هل هو ابتداء كلام، أو تمام الحكاية عن إبليس، على قولين. اهـ.